عرض مدونات الأديان من صنع الإنسان

27‏/07‏/2012

من إشكاليات البداء والنسخ والقتال في القرآن

أشرت ضمن الموضوع السابق إلى البداء في "علم الله" في "فقه" أهل السنة الذي ينتج عن ما يدعونه "نسخ التلاوة"، وأتناول في هذا الموضوع المزيد من إشكاليات البداء والنسخ المقتضي له ومنها ما تقتضيه نصوص القرآن كالتي تقول بالإختبار أو الإبتلاء وكذلك تلك الداعية إلى القتال، والبداء هو القول بأن الإله يبدو أو يظهر له أمر جديد مما ينافي القول بعلم الإله المطلق.
هل الإله حسب نصوص الإسلام كلي العلم حقا؟ أم إن علمه يتجدد، ويبدو للإله ما كان يجهل؟
هل يحتاج من يُفترض أنه مطلق العلم إلى الإختبار لمعرفة سلوك الناس؟ وهل يحتاج الإله لتغيير أحكامه بما يدعى النسخ؟
تبرر كثير من نصوص القتال في القرآن المصائبَ التي تحل بأتباع الأديان كغيرهم من الناس بأن ذلك يحصل ليعلم الله المجاهدين وليعلم المنافقين وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في صدوركم.. الخ، والمشكلة في الفكرة أن الذي يعلم كل شيء قبل حصوله ليس بحاجة إلى ابتلاء الإنسان ليعلم رد فعله، فالمفترض أن الإله يعلم القدرة الكامنة في الفرد على الصبر على الابتلاء وعلى استمرار التصديق بخرافات أنبيائه أو عدمه دون تنفيذ تلك الابتلاءات! فهناك تعارض واضح بين فكرة العلم المطلق للإله وضرورة إختبار الناس بابتلائهم.

وعن الامور المنسوخة والناسخة في نصوص القرآن يقول المتكلمون المسلمون أن النسخ لا يدل على البداء ولا على التناقض ولا العبث لإمكانية وجود مصلحة وحكمة في تغيير الحكم كالتسهيل بالتدرج في الأحكام من الأسهل إلى الأصعب، وهذا التبرير برأيي هو حق اريد بها باطل كونه لا يشمل كل حالات النسخ التي يقول بها أكثر الفقهاء والمفسرين في القرآن والحديث لمنع التعارض بين نصوصه، فلو تتبعنا أمثلة النسخ في القرآن لما وجدنا أية حكمة مقبولة من تغيير حكم كثير من الأحكام والتي يتجه بعضها من الأشد إلى الأسهل مما يجعلنا نتسائل عن سبب تشريع الحكم الأشد من الأساس.

إذا كان الغرض من النسخ هو التدرج في الأحكام من الأسهل إلى الأصعب ومن الإباحة إلى التحريم فما هو مبرر "تنزيل" نص حكم صعب ثم التراجع عنه إلى حكم أسهل؟
كذلك نرى أن كثيرا من النصوص الناسخة تتعلق بظروف تتغير عموما بتغير الزمان والأحوال كنتيجة لتقدم الوسائل بتقدم العلوم مثلا مما لا يبرر بقاء النص الناسخ هو الآخر دون أن تنسخه الظروف لأكثر من ألف وأربعمئة سنة!

أدناه بعض الأمثلة لنصوص قرآنية إشكالية يفيد بعضها عدم علم الإله وذلك بتبرير الشر والإبتلاء بأن ذلك ليعلم الإله مواقف الناس أو نسخ الأحكام أو حتى الأخبار.
1-      ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم (محمد/ 31)
 حاجة الإله لفعل امور سيئة كابتلاء أتباعه كوسيلة ليعلم المجاهدين، والعالِم بكل شيء غني عن الإختبار
2-      نسخ عدد المحاربين المسلمين القادرين على غلبة عدوهم نسبة إلى حجم ذلك العدو من العشر إلى النصف، بدعوى أن الله علم أن في المسلمين ضعفا، كأنه يريد أنه لم يكن يعلم، رغم أن القرآن يحدثنا عن الإله بأنه بكل شيء عليم!:
- إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ – (الأنفال/65)
- الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين (الأنفال/66)
 طبعا نعلم أن الواقع اليوم ينسخ هذا النص هو الآخر ويبطل صلاحيته لهذا الزمان فهل المطلوب اليوم الصمود مثلا من مقاتل مسلم واحد من المشاة لا يملك مضادّات للطائرات يصل مداها إلى ارتفاع طائرتين حديثتين
لمجرد أن النسبة العددية (طيّارَين نسبة إلى مقاتل واحد) لم تتجاوز الضعف؟! تأثير التقدم العلمي في التسليح أصبح اليوم أهم بكثير في تحقيق الغلبة من عدد المقاتلين.
إن هذا النص لا يكتفي بنسخ حكم بآخر فحسب، بل يذكر في ذلك السياق أن علما ما قد حصل عند الإله، ولا يذكر النص أي تغير حصل في الواقع لذا يفهم منه أن الإله كان يجهل واقعهم المتمثل بمدى قدرتهم على الصمود في القتال ثم علم ذلك.
3-      نسخ أحكام دينية جوهرية تتفق مع الأديان الإبراهيمية باُخرى وثنية ربما لأسباب سياسية كنسخ التوجه إلى القدس بالتوجه إلى مكة والذي قد يكون هذا لاستمالة أهل مكة إلى الإسلام وتطمينهم أن منزلة مكة ستبقى رغم التحوّل إلى التوحيد أو ربما لمخالفة المسلمين ليهود المدينة:
- المنسوخة : فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ    (البقرة / 115)
- الناسخة : فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ    (البقرة / 144)
ويحاول القرآن تبرير ذلك بالقول "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها الا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه" وهذا النص يستلزم أن الإله لم يكن يستطيع علم ذلك دون أن يجرّب ويقوم بتغيير القبلة، ولاحظوا أن قول "وما جعلنا ... إلا" يفيد الحصر، يعني إن تحقق علم الله لمن "يتبع الرسول" هو الغرض الوحيد من تغيير القبلة مما يلغي أي إمكانية لتبرير هذا النص!!.

ويحاول بعض المفسرين تبرير ذكر العلم في سياق مثل هذه النصوص بأن هذا "علم ظهور" كما نجد في تفسير الجلالين مثلا، بينما لا معنى لكلمة العلم دون ظهور فهذا نوع من التلاعب بالألفاظ لا أكثر، وهو في كل الأحوال لا يحل المشكلة حيث يمكننا تكرار السؤال مع إضافة المفردة التي يحاولون بها تبرير النص فنقول "ألا يعلم الله الامور (علم ظهور) إلا بوسيلة؟"
فإن قالوا لا، أنكروا علم الإله المطلق، وإن قالوا نعم فنعود لنفس المشكلة، ذكر القرآن بأن الإله لم يفعل كذا إلا ليعلم كذا.
4-      نسخ نصوص تتعلق بامور نسائية خاصة بنبي الإسلام لا علاقة للمسلمين بها ولا مبرر لأن تكون أحكاما دينية فضلا عن أن تجدها مع ما يعارضها في نصوص قرآنية:
- لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ.....(الأحزاب /52)

     - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ......(الأحزاب /50)
5-      نسخ وجوب تقديم الصدقة:
نص يقول بطلب محمد تقديم الصدقة عند مناجاته ويبدو من النص أن المسلمين لم يقدموها فتم نسخها..
- يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم (12)
- أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون  ( 13 )
6-      نسخ أحكام معلَّلة وثابتة مثل نسخ نصوص البر وعدم القتال إلا لوقوع ظلم على المسلمين بنصوص الدعوة إلى القتال عموما.
لقراءة بعض تلك النصوص راجع النقطة "أولا" من موضوع من إشكاليات المحاولات الخجولة لإصلاح الإسلام.

بالنسبة لوقوع النسخ في القرآن فهنالك نصان أساسيان يعتمدهما رجال الدين المسلمون الذين قالوا بوقوع النسخ:
النص الأول: "وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر"
هذا النص الذي يتناقض مع نص "لا مبدل لكلمات الله"، لا يدل بالضرورة على التبديل داخل الدين الواحد بل يمكن أن يعني نسخ الأديان السابقة على الإسلام، وكما هو رأي المعتزلي أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني الذي لا يرى وقوع النسخ في القرآن، ومن القائلين اليوم بعدم وقوع النسخ في القرآن أحمد صبحي منصور ومن المنتسبين إلى أهل السنة طه جابر العلواني.
لكن المشكلة التي يواجهها هؤلاء هي كيفية التوفيق بين النصوص المتعارضة في القرآن والتي ذكرنا بعضها في الموضوع في حالة افتراض عدم وقوع النسخ فيه.
النص الثاني: "ما نـَنسَخ [أو "نـُنسـِخ"] من آية أو نـُنسـِها [أو "نـَنسَأها"] نأت بخير منها أو مثلها"
لكن هذا النص كحال كثير من النصوص القرآنية لم يتم نقله بشكل سليم لذا اختلف في قراءته فيما دعاه المسلمون "القراءات السبع أو العشر للقرآن".
قرأ ابن عامر (نـُنسـِخ)، بينما قرأ الباقون (نـَنسَخ)
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (نـَنسَأها) أي نؤخرها ، بينما قرأ الباقون (نـُنسـِها) أي نجعلها تـُنسى
وإذا كان اللفظ والمعنى سيتغيران فلا يبقى شيئا يصلح لاعتبار الكلام واحدا فهو ليس قرآنا واحدا بل مجرد روايات مختلفة، فلا نعلم هل القرآن يتحدث في هذا النص عن نسيان محمد للقرآن أم عن تأخير نزول نصوص قرآنية أو حكمها؟!
كذلك لا نعلم هل إن القرآن يشير هنا إلى النسخ بمعنى "نزيل العمل بها، أو نحذفها من قلوب العباد" وهو الذي يراه جمهور الفقهاء والاصوليين والمفسرين أم بمعنى "ما نوجده وننزله، (من قولهم نَسَخت الكتاب)" والذي لا يقتضي التبديل أوالإزالة بل عمل نسخة عن الأصل كما هو، فقد يفهم من النسخ الإثبات كما قد يفهم منه الإزالة (المصدر: "نسخ" في "المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني").

أي إننا لا نستطيع الجزم بوقوع النسخ (باصطلاح الاصوليين) في القرآن استدلالا بنص قرآني، لكن اختيار الاصوليين والمفسرين لهذا المعنى في النسخ كان وسيلتهم في محاولة تبرير بعض تناقضات النصوص القرآنية بدعوى أن بعضها ناسخ والآخر منسوخ.

مراجع
القرآن 
تفاسير عدة
النشر في القراءات العشر - ابن الجزري
المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني
لسان العرب - ابن منظور

1 comment(s):

إظهار/إخفاء التعليق(ات)

إرسال تعليق

ملاحظة: يسمح بإعادة النشر بشرط ذكر الرابط المصدر أو إسم الكاتب